كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي الدَّمِ يَكُونُ فِي مَذْبَحِ الشَّاةِ أَوِ الدَّمِ يَكُونُ عَلَى أَعْلَى الْقِدْرِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ قَالَا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ ذِي شَيْءٍ إِلَّا مَا ذَكَرَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ الْفِيلِ وَالْأَسَدِ- فَتَلَا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْجِرِّيثِ فَقَالَ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالذِّئْبِ وَالْهِرِّ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [5: 101] كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ أَشْيَاءَ فَلَا يُحَرِّمُونَهَا وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ كِتَابًا فَأَحَلَّ فِيهِ حَلَالًا وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامًا وَأَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ» فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ الْحُمُرَ الْإِنْسِيَّةَ وَلُحُومَ الْبِغَالِ وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَالْمُجَثَّمَةَ وَالْحِمَارَ الْإِنْسِيَّ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَحَرَّمَ الْمُجَثَّمَةَ وَالْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ».
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا».
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِبْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ. وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: «لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ (وَهِيَ خَالَتُهُ) فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ (مَشْوِيٍّ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ) فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولِ اللهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: «لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ.
هَذِهِ جُمْلَةُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي أَوْرَدَهَا السُّيُوطِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْحَصْرَ فِي الْآيَةِ وَيُخَالِفُهُ. وَتَرَكْتُ أَضْعَفَ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ كَحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِيمَا حُرِّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَفِيهِ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ خَالِدٌ بَعْدَ خَيْبَرَ. وَفِي أَصَحِّهَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ عَلَى حَصْرِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِيمَا حَرَّمَتْهُ بِالنَّصِّ وَإِبَاحَةِ مَا عَدَاهُ وَلَا يَرَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا نَاسِخًا لَهَا وَلَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِهَا عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّوْنَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْلَمِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْقَطْعِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
أَمَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ أَوِ الْإِنْسِيَّةُ (وَيُقَابِلُهَا الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ وَهِيَ مُجْمَعٌ عَلَى حِلِّهَا) فَمَا وَرَدَ فِي حَظْرِهَا بِلَفْظِ النَّهْيِ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ لِلْكَرَاهَةِ كَمَا قَالَ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْهَا، وَأَقْوَاهَا مَا وَرَدَ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ مَعَ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ، إِذْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لِنَجَاسَتِهَا وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا كَالْخِنْزِيرِ وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ. وَقَدْ يَكُونُ رِوَايَةً بِالْمَعْنَى مِمَّنْ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي فَهْمِهِ وَتَعْلِيلِهِ. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ بِحِلِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَأَكْلِهِ فِي بَيْتِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ خُلَاصَةَ مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَنَبْنِي عَلَيْهِ التَّحْقِيقَ فِيهَا فَنَقُولُ:
ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَوَقَّفَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحُمُرِ، هَلْ كَانَ لِمَعْنًى خَاصٍّ أَوْ لِلتَّأْبِيدِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ: لَا أَدْرِي أَنْهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةً لِلنَّاسِ فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ، أَوْ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: وَهَذَا التَّرَدُّدُ أَصَحُّ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْهُ بِالْجَزْمِ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ مَخَافَةَ قِلَّةِ الظَّهْرِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ. (قَالَ الْحَافِظُ): وَقَدْ أَزَالَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ أَوَكَانَتْ جَلَّالَةً (أَيْ تَأْكُلُ الْجِلَّةَ وَالْعَذِرَةَ) أَوْ كَانَتِ انْتُهِبَتْ حَدِيثُ أَنَسٍ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَكَذَا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ» ظَاهِرٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْحُمُرِ لِأَنَّهَا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهَا الْمَأْمُورُ بِإِكْفَائِهَا مِنَ الْقُدُورِ وَغَسْلِهَا، وَهَذَا حُكْمُ الْمُتَنَجِّسِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِعَيْنِهَا لَا لِمَعْنًى خَارِجٍ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَمْرُ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ ظَاهِرٌ أَنَّهُ سَبَبُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْحُمُرِ، وَقَدْ وَرَدَتْ عِلَلٌ أُخْرَى إِنْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْهَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ. وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ.
وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِخَشْيَةِ قِلَّةِ الظَّهْرِ فَأَجَابَ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْمُعَارَضَةِ بِالْخَيْلِ، فَإِنَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ النَّهْيَ عَنِ الْحُمُرِ وَالْإِذْنَ فِي الْخَيْلِ مَقْرُونًا، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ لِأَجْلِ الْحَمُولَةِ لَكَانَتِ الْخَيْلُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَخَبَرَ التَّحْرِيمِ مُتَأَخِّرٌ جِدًّا فَهُوَ مُقَدَّمٌ وَأَيْضًا فَنَصُّ الْآيَةِ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ نُزُولِهَا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْمَأْكُولِ إِلَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فِيهَا، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ أَحْكَامٌ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا كَالْخَمْرِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَفِيهَا أَيْضًا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَالْمُنْخَنِقَةِ إِلَى آخِرِهِ. وَكَتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ثَالِثَتُهَا الْكَرَاهَةُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلَّا سِمَانَ حُمُرٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَدْ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ قَالَ: «أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ» يَعْنِي الْجَلَّالَةَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَالْمَتْنُ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ: «أَلَيْسَ تَرْعَى الْكَلَأَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَصِبْ مِنْ لُحُومِهَا» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ قَالَ: سَأَلْتُ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ- فَفِي السَّنَدَيْنِ مَقَالٌ وَلَوْ ثَبَتَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَوْ تَوَاتَرَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ مِنَ الْأَهْلِيِّ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ إِذَا كَانَ وَحْشِيًّا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ فَكَانَ النَّظَرُ يَقْتَضِي حِلَّ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ مِنْهُ (وَرَدَّهُ الْحَافِظُ بِمَنْعِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ وَسَنَدُهُ أَنَّ بَعْضَ الْأَهْلِيِّ مُخْتَلَفٌ فِي وَحْشِيِّهِ كَالْهِرِّ) اهـ.
أَقُولُ: هَذَا مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ تَلْخِيصِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ أَكْلِ الْحَمِيرِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ عُمْدَةَ الْجَازِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُعَلِّلُ لَهُ بِأَنَّهَا رِجْسٌ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ الْمَذْكُورِ آنِفًا لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي رَدُّوهُ بِهِ وَجَعَلُوهُ شَاذًّا بِمُخَالَفَتِهِ؛ إِذْ فَسَّرُوا وَصْفَهَا بِالرِّجْسِ بِأَنَّهَا نَجِسَةُ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ لِلنَّجَاسَةِ وَهُوَ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ شَرْعًا، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبِهِ. وَحَدِيثُ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ يُفَسِّرُ كَوْنَهَا رِجْسًا بِأَنَّهَا كَانَتْ هُنَالِكَ (أَيْ فِي خَيْبَرَ) تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ؛ وَبِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ كَالْبَيْضَاوِيِّ كَوْنَ الْخِنْزِيرِ رِجْسًا أَيْضًا. وَلَكِنَّ الْخِنْزِيرَ مُلَازِمٌ لِلْأَقْذَارِ دَائِمُ التَّغَذِّي مِنْهَا، وَأَمَّا الْحُمُرُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَارِضًا لَهَا كَمَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاجِنِ كَالدَّجَاجِ، فَجَوَالُّ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَالِّ الْقَرْيَةِ» بِتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ جَالَّةٍ كَهَوَامَّ جَمَعُ هَامَّةٍ وَدَوَابَّ جَمْعُ دَابَّةٍ، وَهِيَ الْجَلَّالَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ فَيَخْبُثُ لَحْمُهَا، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهَا، وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيمًا عَارِضًا مُوَقَّتًا، أَيْ مَا دَامَ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا مُتَغَيِّرًا مِنَ النَّجَاسَةِ بِالنَّتِنِ وَتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ، وَهَذَا هُوَ الْعُمْدَةُ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: هِيَ مَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا نَجِسًا، فَحَدِيثُ أَنَسٍ شَاهِدٌ يُقَوِّي حَدِيثَ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ فَيُجْعَلُ شَاذًّا بِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ، فَلَا يَضُرُّهُ اضْطِرَابُ سَنَدِهِ إِذًا مَعَ عَدَمِ الطَّعْنِ بِرِجَالِهِ. وَحَدِيثُ أَمِّ نَصْرٍ الْمُحَارِبِيَّةِ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ بِتَعْلِيلِهِ حِلَّ لُحُومِ الْحُمُرِ بِكَوْنِهَا تَأْكُلُ الْكَلَأَ وَوَرَقَ الشَّجَرِ أَيْ لَا النَّجَاسَةَ- فَالْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ الْآيَةِ بَلِ الْآيَاتِ الْقَطْعِيَّةِ اللَّفْظِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ عَارِضًا مُوَقَّتًا فَيُقْصَرُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَيُبَاحُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ عَلَى الْأَصْلِ وَمُقْتَضَى النَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَعْلِيلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إِيَّاهُ بِقِلَّةِ الظَّهْرِ أَيْ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ سَبَبَ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَتَلَاهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّهَا رِجْسٌ. وَمَا قِيلَ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِحِلِّ الْخَيْلِ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْحَمْلِ هِيَ حَمْلُ الْمَتَاعِ مِنَ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ تَكُنِ الْخَيْلُ تُسْتَعْمَلُ لِهَذَا وَلَا تَفِي بِهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهَا كَانَتْ عَزِيزَةً وَقْتَئِذٍ. وَلَوْ كَانَتِ الْحَمِيرُ نَجِسَةَ الْعَيْنِ شَرْعًا لَوَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي نَقْلِهِ وَتَوَاتُرِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِكْفَاءُ الْقُدُورِ وَغَسْلُهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرِّجْسِ الْعَارِضِ مِنْ أَكْلِهَا الْعَذِرَةَ لَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِمَحْضِ النَّظَافَةِ كَمَا يَفْعَلُ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْقُدُورِ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرَهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَإِنَّهُمْ يَغْسِلُونَهَا بَعْدَ فَرَاغِهَا.
وَأَمَّا جَوَابُهُمْ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ بَيَّنَتْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا وَقْتَ نُزُولِهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ تَحْرِيمَ غَيْرِهِ بَعْدَهَا كَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَخْ. فَهُوَ غَفْلَةٌ وَقَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَجَلَّ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يُخْطِئُ.
الْآيَةُ قَدْ أَكَّدَتْهَا آيَةٌ بَعْدَهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَآيَةٌ مَدَنِيَّةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ. وَتَحْرِيمُ الْحُمُرِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ أَكْلَ النَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ أَطْعِمَةً فَتَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ الْحُمُرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْهُ فَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ كَالْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُخْتَارَ الْقَوِيَّ فِيهِ، فَهَذَا بَيَانُ بُطْلَانِ مَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهَا بِالْإِجْمَالِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ فِيهِ قَرِيبٌ. وَمِنْ غَرَائِبِ السَّهْوِ ذِكْرُ الْحَافِظِ أَنَّ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِمَّا حُرِّمَ بَعْدَهَا وَهُوَ فِيهَا.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَلَيْسَ نَصًّا فِي التَّحْرِيمِ لِاحْتِمَالِهِ الْكَرَاهَةَ، وَتَرْجِيحُ الِاحْتِمَالِ بِدَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَصْرِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فِي الْحِجَازِ، وَلَوْ حُرِّمَ تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا فِي غَزْوَةٍ مَشْهُورَةٍ لَنُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا النَّهْيَ فِي الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّامَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ السِّبَاعِ لَا بِتَحْرِيمِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ حَمْلِهِ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ الْآيَاتُ وَاسْتِبَاحَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَكْلِ السِّبَاعِ إِذْ كَانَ يُحْتَجُّ بِعَمَلِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا- وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ «فَأَكْلُهُ حَرَامٌ» فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، أَيْ أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ النَّهْيِ التَّحْرِيمَ فَعَبَّرَ بِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَحَادِيثَ كَكَثْرَةِ مَرَاسِيلِهِ. وَمِمَّا يُعِلُّ بِهِ الْحَدِيثَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ فَقِيهًا وَمَذْهَبُهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَمَا خَالَفَهُ، وَنَاهِيكَ بِمِثْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ وَهُوَ مِنْ رُوَاتِهِ. وَحَدِيثَا جَابِرٍ وَالْعِرْبَاضِ الْمُصَرِّحَانِ بِالتَّحْرِيمِ لَيْسَا صَحِيحَيْنِ وَإِنَّمَا حُسِّنَا لِمُوَافَقَتِهِمَا لِأَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَلاسيما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَلَى أَنَّهُمَا قَالَا: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَذَا وَكَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعْبِيرٌ عَمَّا فَهِمَا مِنْ كَوْنِ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْمَرْفُوعِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَارِضٌ مُوَقَّتٌ وَفَهِمَ آخَرُونَ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ فَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ كَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (يَعْنِي عَدَمَ التَّحْرِيمِ) وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ {قُلْ لَا أَجِدُ} وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَحَدِيثُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَدَمُ تَحْرِيمِ غَيْرِ مَا ذُكِرَ إِذًا فَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُ مَا سَيَأْتِي، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ خَاصَّةٌ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا حِكَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ بِآرَائِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} أَيْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَلَا يُرَدُّ كَوْنُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ذُكِرَ مَعَهَا لِأَنَّهَا قَرَنَتْ بِهِ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ نَجِسًا، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِذَا وَرَدَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْآيَةَ حَاصِرَةً لِمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مَعَ وُرُودِ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ إِبَانَةَ حَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُضَادُّونَ الْحَقَّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً، وَرُدَّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي تَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَتَخْصِيصِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ بِآلِهَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ اهـ.